مقال رئيس التحرير

عدالة الأقدار.. في الإفساد إصلاح وفي الهدم بناء ولا يظلمُ ربُّك أحدًا

بقلم: د. محمود عبد الكريم عزالدين

لا جدال في أن الله تعالى عدل لا يظلم أحدًا من خلقه مثقال ذرة، ولا يقع في أفعاله ظلم أبدًا، فقد قال- سبحانه وتعالى-: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ {النساء:40}، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ {فصلت:46}، وقال تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا {الكهف:49}، وفي الوقت نفسه، فالمؤكد أن تفضيل بعض العباد على بعض لا ينافي عدل الله، وأنه لا سبيل لمخلوق إلى الإحاطة بحكمة الله فيما يخلق ويقدر، فإن القدر سر الله الذي لم يحط به علمًا سواه.. وفي قصة نبي الله موسى مع الخضر عليه السلام من قتل الغلام وإقامة الجدار وخرق السفينة، ما يعضد ويعزز المعنى المقصود.

في البداية يقول الدكتور حسني أبو حبيب وكيل وزارة بالأوقاف، إن المؤمنين درجات عند الله، كلهم في الجنة،  ولكن وفد يسعى إليها على رجليه (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا )، ووفد يركب تكريمًا وتدليلًا (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً)، واﻷعلى كرامة ومنزلة، وفد تسعى إليه الجنة وتقترب منه (وأزلفت الجنة للمتقين).

وللتأكيد على عدالة الأقدار يستدل د. حسني بهذه الواقعة؛ حيث يُروى- فيما مضى في زمن نبي الله موسى عليه السلام – أن أحد الفرسان شعر بالعطش الشديد، فعمد بفرسه إلى بئر ماء قريب فشرب منه وسقى فرسه ثم مضى في طريقه، فسقط منه كيس نقوده قرب البئر وأكمل مسيره دون أن ينتبه  وبعد برهة من الزمن، وصل إلى البئر راعي غنم، رأى كيس النقود فالتقطه وتلفت حوله فلم يجد أحداً فسقى أغنامه وذهب.

وبعد لحظات، جاء رجل عجوز فشرب من البئر ثم جلس يستريح في ظل شجرة.. وعاد الفارس ليبحث عن كيس النقود الذي سقط منه فلم يجده، ووجد الرجل جالسا فسأله عن الكيس؟ أجاب الرجل بأنه لم يره.. قال الفارس: لا يوجد أحد في المكان غيرك، بل أنت من أخذته.. واحتدم الخلاف بينهما حتى ضرب الفارس الرجل بسيفه فقتله.

وكان ذلك في زمن نبي الله موسى، فقال موسى: يارب ؟ قتل الرجل ظلما، والفارس سُرقت نقوده ولم يعثر على السارق، والراعي سرق ولم يعاقب فأين العدل .. يارب؟؟! قال الله عزوجل: هذا هو العدل يا موسى.. قال موسى: يارب وكيف ذلك ؟

  قال الله عز وجل: ذلك الراعي عمل فترة من الزمن عند الفارس، فماطله بدفع أجرته، فكان ذلك المبلغ هو أجرة الراعي على عمله.. أما الرجل الذي قُتل فقد تشاجر في شبابه مع والد ذلك الفارس فقتله فكان قتل الفارس لذلك العجوز قصاصا.. كل ذلك في علم الله وهو العادل المتصرف في ملكوته، بينما في أحكامنا المحدودة نراها ظلماً وذلك لقصور عقولنا، فسبحان من دانت لعظمته السموات والأرض.

ويقول الشيخ علي جمعة مدير عام بوزارة الأوقاف: يجب على المسلم الاعتقاد بأن الله تعالى عدل لا يظلم أحدًا من خلقه مثقال ذرة،  وفي صحيح مسلم عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فيما روى عن الله، أنه قال: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا …) الحديث.

ويضيف: والعدل ليس هو التسوية بين الخلق في كل شيء.. بل العدل هو وضع الشيء في موضعه اللائق به، كما أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه؛ وفي هذا الصدد، يقول ابن القيم: والصواب أن العدل وضع الأشياء في مواضعها التي تليق بها وإنزالها منازلها، كما أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وقد تسمى سبحانه بالحكم العدل.

وأشار الشيخ علي جمعة إلى أن أهل السنة والحديث عرَّفوا الظلم بأنه وضع الشيء في غير موضعه، وهو سبحانه حكم عدل، لا يضع الشيء إلا في موضعه الذي يناسبه ويقتضيه العدل والحكمة والمصلحة، وهو سبحانه لا يفرق بين متماثلين ولا يساوي بين مختلفين، ولا يعاقب إلا من يستحق العقوبة، ويضعها موضعها لما في ذلك من الحكمة، ولا يعاقب أهل البر والتقوى.

ويوضح الشيخ محمد عبد المنعم السيد مدير عام بوزارة الأوقاف، أن تفاوت المقادير بين العباد ليس ظلمًا أبدًا، وإلا فيلزم على ذلك أن العدل لا يتحقق إلا إذا تساوى الخلق جميعهم في كل ما يقدره الله عليهم، وهذا من أبطل الباطل.. والمؤكد أن تفضيل بعض العباد على بعض لا ينافي عدل الله -جل وعلا-، وأنه لا سبيل لمخلوق إلى الإحاطة بحكمة الله فيما يخلق ويقدر، فإن القدر سر الله الذي لم يحط به علمًا سواه.

وفي هذا الصدد، يقول الإمام الطحاوي: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرج الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا أو فكرًا أو وسوسة، فإنه تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال -عز وجل-: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.

ويشدد الشيخ محمد عبد المنعم على أنه على العبد التسليم والإذعان بأن الله حكيم، لا يقضي إلا ما له فيه أتم الحكمة، وله عليه أوفى الحمد، وأن أفعاله سبحانه دائرة بين العدل والفضل، وهو سبحانه لا يظلم أحدًا.

ومن جانبه، يقول الشيخ هشام القلتاوي- إمام وخطيب بوزارة الأوقاف- إنه لا شك أن ما يحدث من أنواع المظالم العامة والخاصة لا يخفى على الله منها شيء، ولا شك أيضا أن الله تعالى لا يرضى بالظلم والعدوان؛ مستشهدًا بالآية الكريمة: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. {آل عمران: 57}. وقال سبحانه في الحديث القدسي: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. رواه مسلم.

ويواصل الشيخ هشام القلتاوي، بأن الناس في ذلك بين ظالم ومظلوم، فأما الظالم فإن الله تعالى إنما يملي له ليزداد إثما، ويؤخره ليوم تشخص فيه الأبصار، قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. {آل عمران:178}. وقال سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ. {إبراهيم:42}.

 قال السعدي: هذا وعيد شديد للظالمين، وتسلية للمظلومين، يقول تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. حيث أمهلهم وأدرَّ عليهم الأرزاق، وتركهم يتقلبون في البلاد آمنين مطمئنين، فليس في هذا ما يدل على حسن حالهم، فإن الله يملي للظالم ويمهله ليزداد إثما، حتى إذا أخذه لم يفلته: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). والظلم يشمل الظلم فيما بين العبد وربه، وظلمه لعباد الله.

وأما المظلوم فإن الله تعالى يمتحنه تمييزا وتمحيصا، فإن آمن بالله واتقاه جوزي على ذلك بالثواب الجزيل، كما قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. {آل عمران:179}. وقال عز وجل: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. {المائدة:48}.

من جهة أخرى- وكما يبين الشيخ رمضان إبراهيم- الواعظ بالأوقاف- بأن الدنيا  ليست دار جزاء ووفاء، وإنما هي دار محنة وبلاء، فهي لم تخلق للدوام والبقاء، بل للزوال والفناء، فلا يصح أن يحكم على حال الدنيا بمعزل عن الآخرة، فإن الله تعالى لم يخلقها إلا ليبتلي بها عباده ويمتحنهم فيها فينظر كيف يعملون، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. {هود:7}.

والشاهد أن إقامة العدل المطلق لا تكون في الدنيا بل تكون في الآخرة، حيث يقول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. {الأنبياء:47}. وقال صلى الله عليه وسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. رواه مسلم.

والمعنى ذاته يؤكد عليه د. حسني أبو حبيب حيث يقول: إقامة العدل بين العباد، إنما يتحقق كاملا في الآخرة، عندما توضع موازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا.. وأما في الدنيا فقد يموت المظلوم بمظلمته، ويموت الظالم بظلمه، دون أن يقام العدل بينهما، حتى تُقتَصَّ بينهم المظالم يوم القيامة.. وكذلك فإن المحسنين في الدنيا يموت بعضهم دون أن يرى جزاء إحسانه فيها، حتى يُجزَى بذلك يوم القيامة، فالدنيا ليست بدار جزاء، وإنما هي دار عمل، بعكس الآخرة فهي دار جزاء وليست دار عمل.

ويلفت الشيخ محمد عبد المنعم الأنظار إلى أن هذا لا يتعارض مع اتصاف الله تعالى بالعدل مطلقا، فهو سبحانه متصف بذلك أزلا وأبدا، وإن كان ظهور آثاره للعباد في الدنيا يتفاوت، حتى يظهر جليا للجميع، ويرى حق اليقين، في الآخرة، حيث: (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {البقرة:281}، {آل عمران:161}، وذلك يوم القيامة، كما قال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر: 17]، على أن الظلم الذي يجب نفيه عن الله تعالى هو الظلم المتعلق بالجزاء، فالله تعالى لا يجزي العبد إلا بعمله، ولا يعذبه إلا بذنبه، ولا يضيع أجر المحسنين.

وأما الظلم هنا في الدنيا فلا يتحقق إلا بوضع الشيء في غير موضعه، وهذا لا يكون في حكم الله أبدا، ولكننا لقصور علمنا ونقص معرفتنا لا ندرك كثيرا من مواضع الحكمة، وليس عندنا ما يؤهلنا لقدر كل شيء قدره، ووضع كل شيء موضعه.. وأما الله تعالى، فله الحجة البالغة والحكمة التامة، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى