ملفاتمميز

بي. بي. سي: هذه الأزمات الثلاث.. كيف أثرت على الأمن الغذائي العربي؟!!

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مخاوف متعلقة بالأمن الغذائي العالمي، لا سيما مع استمرار غزو روسيا لأوكرانيا، إذ تُعتبر الاثنتان من أكبر بلدان العالم المصدرة لسلعة غذائية رئيسة هي القمح.

ودق تقرير صادر عن برنامج الغذاء العالمي في أوائل مايو/أيار الماضي ناقوس الخطر، حيث أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش في مقدمته إلى أن العالم يواجه أزمة جوع على نطاق غير مسبوق، وارتفاعا في الأسعار لم يُشهد له مثيل من قبل.

فماذا يعني الأمن الغذائي، وما العوامل التي أدت إلى مخاوف من زيادة عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدامه في العالم، وما حجم المشكلة التي تواجهها المنطقة العربية؟

عاصفة مكتملة الأركان

عرف مؤتمر القمة العالمي للأغذية المنعقد عام 1996 الأمن الغذائي بأنه الحالة التي يتحقق فيها حصول الجميع على الأطعمة الكافية والسليمة والمغذية في كل الأوقات، وبشكل يلبي الاحتياجات الغذائية الضرورية لحياة صحية ونشطة.

ومن التعريفات الأخرى للمفهوم، هو أنه قدرة الدولة على تأمين مخزون كاف للسلع الأساسية لفترة لا تقل عن شهرين ولا تزيد على سنة، وتختلف المدة بحسب الدولة والمادة الغذائية الأساسية.

ويعتمد مدى نجاح الدولة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الرئيسية بما يجعلها تتفادى انعدام الأمن الغذائي على عوامل الجغرافيا، والمناخ، وتوافر الأراضي الزراعية ومصادر الري والأيدي العاملة، وامتلاك تقنيات زراعية حديثة.

ولطالما شغلت قضية الأمن الغذائي الكثير من حكومات العالم، لما له من تأثيرات مباشرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إذ قد يؤدي انعدامه إلى عدم الاستقرار والاضطرابات والهجرات الجماعية في بعض الأحيان.

وقد فاقمت الحرب الأوكرانية أزمة ثلاثية الأبعاد – أزمة غذاء وأزمة طاقة وأزمة اقتصاد”، وفق غوتيريش، “ما سيكون له آثار مدمرة على أكثر الناس والبلدان والاقتصادات هشاشة في العالم”.

وتقول الدكتورة عبير عطيفة المتحدثة الإعلامية باسم برنامج الغذاء العالمي في الشرق الأوسط إن “روسيا وأوكرانيا مسؤولتان عن نحو 30 في المئة من تجارة القمح العالمية، ومن ثم فإن أي اضطراب خطير في الإنتاج والتصدير يؤثر على الأمن الغذائي لملايين الأشخاص الذين يعانون بالفعل من تضخم أسعار الغذاء في بلدانهم”.

قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، بالتحديد في شهر فبراير/شباط الماضي، وصلت أسعار الغذاء العالمية أعلى مستويات لها على الإطلاق بسبب مشكلات تتعلق بالعرض والطلب وارتفاع نفقات الإنتاج واضطرابات التجارة الدولية وسلاسل الإمداد جراء تفشي وباء كوفيد-19 ثم جاءت الحرب لتضيف إلى حالة عدم اليقين في أسواق السلع الزراعية.

 

وتقول الدكتورة عطيفة إن ما يميز هذه الأزمة عن سابقاتها هو أنه عندما بدأت الحرب الأوكرانية، لم يكن العالم قد تعافى بعد من آثار جائحة كورونا وما نتج عنها من تباطؤ اقتصادي، فضلا عن تقلبات الطقس الناتجة عن ظاهرة التغير المناخي والتي ضربت مختلف مناطق العالم وأثرت على الإنتاج الزراعي، وارتفاع أسعار الغذاء في البلدان التي تشهد صراعات مسلحة – “ومن ثم فإن لدينا كافة العناصر التي تشكل ما نطلق عليه “the perfect storm” أو العاصفة مكتملة الأركان”.

تأثير الحرب على المنطقة العربية

ليس مستغربا أن المنطقة العربية تتأثر بشكل كبير من تبعات الحرب الأوكرانية، نظرا لأنها تستورد حوالي 42 في المئة من احتياجاتها من القمح و23 في المئة من احتياجاتها من الزيوت النباتية من كل من أوكرانيا وروسيا، بحسب برنامج الغذاء العالمي.

ووفق الدكتورة عطيفة، ارتفعت أسعار دقيق القمح في الشهر الذي تلى اندلاع الحرب بنسبة 47 في المئة في لبنان، 15 في المئة في ليبيا، 14 في المئة في فلسطين، 11 في المئة في اليمن، وحوالي 10 في المئة في سوريا.

كما ارتفعت أسعار دقيق القمح في مصر، التي يمثل الخبز تاريخيا أهمية بالغة لمواطنيها، بنسبة 15 في المئة في مارس/آذار وفق تصريحات أدلى بها عطية حماد رئيس شعبة المخابز بالغرفة التجارية بالقاهرة لوكالة رويترز للأنباء.

تضيف عطيفة: “يأتي ذلك في وقت شهد فيه الكثير من الدول ارتفاعا كبيرا في تكلفة سلة الغذاء – وهي الحد الأدنى للاحتياجات الغذائية لأي أسرة. على سبيل المثال، ارتفعت تكلفة سلة الغذاء في لبنان بنسبة 351 في المئة، تليه سوريا بنسبة 97 في المئة، واليمن بنسبة 81 في المئة”.

في عام 2008، أصدرت المنظمة العربية للتنمية الزراعية خلال دورتها الثلاثين “إعلان الرياض لتعزيز التعاون العربي لمواجهة أزمة الغذاء العالمية”، والذي تضمن إطلاق مبادرة لبرنامج عربي طارئ للأمن الغذائي تهدف إلى “زيادة واستقرار إنتاج الغذاء في الوطن العربي، وبخاصة الحبوب والبذور الزيتية والسكر”، ونص على ضرورة “استنهاض همم القطاع العام والخاص ورجال الأعمال العرب للتوجه إلى الاستثمار في المشروعات الزراعية المشتركة…وحث حكومات الدول للإسراع بتهيئة التشريعات والقوانين الداعمة للتكامل الزراعي العربي”.

كما أصدرت المنظمة ذاتها إعلان نواكشط للأمن الغذائي العربي المستدام في أبريل/نيسان الماضي الذي أطلق “استراتيجية التنمية الزراعية العربية المستدامة 2030، والبرنامج العربي لاستدامة الأمن الغذائي” والذي يهدف إلى “زيادة مستويات الإنتاجية والإنتاج الزراعي من السلع الغذائية الأساسية بنسبة لا تقل عن 30 في المئة خلال السنوات العشر القادمة”.

ورغم كل تلك المبادرات، لا تزال المنطقة العربية تعتمد بشكل متزايد على الاستيراد لتغطية جل احتياجاتها من السلع الغذائية الأساسية بنسبة كبيرة، إذ إن الارتفاع الكبير لمعدل النمو السكاني السنوي (الذي قدر بقرابة 2 في المئة، مقارنة بحوالي1 في المئة عالميا خلال عام 2020)، لم يرافقه توسع في الرقعة الزراعية أو زيادة عائدات المحاصيل.

وتوقع تقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام عام 2017 بعنوان “الآفاق العربية 2030: فرص تعزيز الأمن الغذائي في المنطقة العربية” أن “الاعتماد على الواردات الغذائية سوف يظل سائدا حتى عام 2030 وأبعد من ذلك”. فهل يعود ذلك لأسباب خارجة عن إرادة بلدان تلك المنطقة، أم لقصور سياسات الأمن الغذائي فيها؟

عوامل طبيعية

تتسم المنطقة العربية بالتنوع والتفاوت بين بلدانها فيما يتعلق بنوعية الأرض وكميات المياه المتاحة والموارد الطبيعية والظروف الاقتصادية والمناخية. وباستثناء البلدان الخليجية، يمثل الإنتاج الزراعي أهمية كبيرة للمنطقة، ولكنها لا تنتج ما يكفيها من القمح والأرز والخضروات والزيوت النباتية وحبوب العلف، فتلجأ إلى استيرادها.

ولطالما تساءل البعض في وسائل الإعلام العربية عن أسباب عدم تخصيص مساحات أكبر من الأراضي المزروعة للسلع الغذائية الأساسية كالحبوب مثلا لتحقيق الاكتفاء الذاتي منها.

تقول مونيكا توتوفا الخبيرة الاقتصادية بمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو” إن “البلدان العربية التي باستطاعتها زراعة الحبوب، تقوم بالفعل بذلك”.

وتضيف أن مصر هي البلد العربي الوحيد الذي يحقق إنتاجا سنويا مستقرا من الحبوب بسبب قربها من مصدر ري هو نهر النيل. أما في البلدان الأخرى، فيعتمد إنتاج الحبوب على الأمطار وتحكمه تقلبات الطقس، ولذا هناك تفاوت كبير في كمية الحبوب المنتجة، “ومن أكثر الأمثلة وضوحا في هذا الشأن المغرب والجزائر وتونس”.

المنطقة العربية من بين مناطق العالم التي تعاني من نقص في المياه، وهناك بعض التوقعات بأن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستكون من أوائل المناطق في العالم التي ستنضب مياهها. وطبقا لتقرير أصدرته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في الشرق الأوسط في فبراير/شباط الماضي، فإن نحو 80 إلى 90 مليون من سكان المنطقة سيعانون من شكل من أشكال “الإجهاد المائي” الذي يحدث عندما يفوق الطلب على المياه الكمية المتاحة منها، وهو ما ينتج عنه تدهور موارد المياه العذبة، بحلول عام 2025.

أما بلدان الخليج فمعظم أراضيها صحراوية وتعاني من قلة موارد المياه ما يجعل الزراعة فيها عملية صعبة.

كما أن عديد البلدان العربية تشهد تدهورا بيئيا بشكل متكرر، وهو ما يحدث نتيجة لاستنزاف المصادر الطبيعية كالماء والهواء والتربة وتدمير النظم البيئية وانقراض الحياة البرية.

وقد كان لتداعيات التغير المناخي أثار مدمرة على الإنتاج الزراعي في بعض البلدان العربية في الأعوام القليلة الماضية، فارتفاع درجات الحرارة الشديد وما رافقه من ندرة الأمطار أديا إلى انخفاض عائدات بعض المحاصيل الرئيسية وتفشي آفات زراعية جديدة.

إهمال الزراعة

العوامل الطبيعية ليست وحدها التي أدت إلى عدم تحقيق اكتفاء ذاتي من المحاصيل الغذائية الرئيسية.

فقد ألقى كثير من الخبراء باللوم على سياسات بعض الدول العربية التي لم تمنح الأولوية في خططها الاقتصادية للمشروعات الزراعية، ولا سيما تلك التي تركز على المحاصيل الأساسية كالقمح، كما أنها لم تدعم المزارعين كما يحدث في بلدان غربية، ما أدى إلى تدهور الإنتاج الزراعي، ودفع بالمزارعين إلى الهجرة إلى المناطق الحضرية أو الخارج.

أضف إلى ذلك زحف الأبنية على الرقعة الزراعية، ولا سيما حول مدن عربية كبرى كالقاهرة ودمشق، والذي أدى إلى تقليص الأراضي الزراعية الخصبة وتدميرها.

 

وهناك بلدان في المنطقة كسوريا واليمن والصومال والسودان تعاني بالفعل من مستوى مرتفع من انعدام الأمن الغذائي بسبب النزاعات وتدهور أدائها الاقتصادي. على سبيل المثال، يشير تقرير برنامج الغذاء العالمي الذي سبق الإشارة إليه إلى أنه كان هناك 12 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام متوسط إلى حاد في الأمن الغذائي عام 2021، في حين وصف التقرير وضع الأمن الغذائي لأكثر من 16 مليون يمني بالكارثي خلال العام ذاته.

و تشير مونيكا توتوفا من الفاو إلى أن الحصول على المستلزمات الزراعية (كالأسمدة والمعدات على سبيل المثال) لا يزال يمثل مشكلة في المناطق المتأثرة بالنزاعات أو الأزمات الاقتصادية أو الاثنين معا.

وتضيف أن لبنان على وجه الخصوص “يواجه مشكلة كبيرة بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها منذ وقت طويل، فضلا عن نقص منشآت التخزين في مرأفه الرئيسي في أعقاب التفجير الذي تعرض له عام 2020، ما أثر على قدرة البلاد على الاستيراد”.

 

تقول الدكتورة عبير عطيفة من برنامج الغذاء العالمي إن الحرب على أوكرانيا “أظهرت هشاشة وضع الأمن الغذائي في المنطقة العربية وأفريقيا ودول كثيرة في آسيا، وأوضحت ضرورة التفكير في إعادة الأولويات والاستثمار في مجال الزراعة، وتحقيق على الأقل نسبة كبيرة من الاكتفاء الذاتي، وإن لم يكن اكتفاء كاملاً، بحيث تتفادى الشعوب العوامل الخارجة عن السيطرة”.

 الأمن الغذائي جوهر الأمن القومي 

تستورد بلدان مجلس التعاون الخليجي نحو 90 في المئة من احتياجاتها الغذائية من بلدان بينها روسيا وأوكرانيا، ولكنها تمكنت حتى الآن من الصمود أمام تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الأسواق الزراعية. وقد أدت جملة من السياسات التي تنتهجها بلدان المجلس – من بينها تنويع مصادر الاستيراد، والاستثمار في تقنيات إنتاج المحاصيل الغذائية في المناطق الجافة، وقيام بعضها بشراء أراض زراعية في بلدان أجنبية – إلى تقوية وضع الأمن الغذائي في تلك البلدان. كما أن ارتفاع أسعار النفط مكنها كذلك من امتصاص الزيادات الكبيرة في أسعار الغذاء وحماية مواطنيها من انعدام الأمن الغذائي.

ولكن رغم الأمن الغذائي النسبي التي تتمتع به بلدان المجلس، يوصي الخبراء بأن تحاول تلك الدول إنتاج المزيد من المحاصيل والاستثمار بشكل أكبر في الشركات الزراعية وبناء احتياطات غذائية لحمايتها من آثار أزمات مستقبلية.

 

نظرا لما تتسم به المنطقة العربية من تنوع في المصادر الطبيعية والظروف المناخية والاقتصادية، يتضح أن هناك تفاوتا في حجم المشكلات التي يواجهها كل بلد على حدة فيما يتعلق بقضية الأمن الغذائي. ولكن في البلدان العربية جميعها هناك الكثير من الأشخاص من ذوي الدخول الثابتة الذين ينفقون جزءا كبيرا من دخولهم على الغذاء والطاقة، “وإذا ارتفعت الأسعار بشكل أكبر، لن يتبقى لهم الكثير من المال لإنفاقه على احتياجاتهم الأخرى” كما تقول مونيكا توتوفا.

بالطبع هناك إجراءات خارجة عن إرادة البلدان العربية يمكنها تحسين أوضاع الأمن الغذائي – ولا سيما وقف الحرب في أوكرانيا وعدم تعطيل صادرات الغذاء والمستلزمات الزراعية، وابتكار آليات عالمية لمواجهة ارتفاع أسعار الغذاء والمعدات الزراعية.

 

ولكن هناك بعض الإجراءات التي تقترح توتوفا أن تتخذها البلدان العربية كذلك، من بينها مساعدة المواطنين الأكثر تضررا بارتفاع الأسعار من خلال تقديم معونات مالية في هيئة أموال أو قسائم طعام (food vouchers)، واعتماد وسائل لإنتاج المحاصيل الغذائية الرئيسية بصورة أكثر استدامة مع الأخذ في الاعتبار التقلبات الجوية، واستخدام تقنيات زراعية لتحسين الإنتاج، وبذور تتكيف مع الجفاف ووسائل ري موفرة للمياه، فضلا عن ضرورة تنويع الدول التي يتم استيراد المواد الغذائية الرئيسية منها بدلا من الاعتماد على عدد صغير من البلدان المنتجة.

وربما ينبغي أن يضاف إلى ذلك تفعيل المبادرات المتفق عليها عربيا، كإعلاني الرياض ونواكشط على سبيل المثال.

يرى د. أشرف كشك مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة “دراسات” أن تحدي الأمن الغذائي الأخير حمل في طياته فرصة جعله مدخلا للتعاون الإقليمي “من خلال إيلاء البعد الجغرافي أهمية في ظل نتائج الإغلاق خلال أزمة كورونا، ومن ذلك زيادة حركة التبادل التجاري ومن بينه المنتجات الغذائية بين مصر ودول الخليج العربية”، وكذلك “بحث تأسيس إطار جماعي للأمن الغذائي الإقليمي”، ويعطى مثالا على ذلك بمقترح كويتي لإنشاء شبكة أمن غذائي موحدة لدول الخليج.

وإذا كانت بعض المستجدات في الآونة الأخيرة – كالتغير المناخي والهجمات السيبرانية على سبيل المثال – قد دفعت بالبعض إلى إعادة تعريف الأمن القومي بعيدا عن المفهوم العسكري التقليدي، يقول د. كشك إن “تحدي الأمن الغذائي أعاد تعريف الأمن القومي مجددا لتكون القدرة على توفير الغذاء الآمن المستدام جوهر ذلك الأمن وركيزته التي تتجاوز تهديداته حدود الدول لتطال أقاليم بأسرها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى