ملفات

«الأسبلة» من روائع الحضارة الإسلامية .. مقصد المحتاجين والمساكين

تقرير بقلم: سمير محمد شحاتة

تُعد الأسبلة المائية جزءًا من أجزاء الوقف الخيري، والذي يُقصد به الواقف من ورائه التصدق على وجوه البر، سواء أكان على أشخاص معينين كالفقراء والمساكين والعجزة، أم كان على جهة من جهات البر العامة، كالمساجد والمستشفيات والمدارس وغيرها، مما ينعكس نفعه على المجتمع، والتي يراد منها الأجر والمثوبة، واستدامة منفعتها في الدنيا والآخرة.

 

لكن إدخال المياه إلى المنازل، عبر شبكات المياه الحديثة، فى أواخر القرن الماضي، قد جعل من الأسبلة، التي كانت حافلة بالحركة، ومحاطة بكل الاهتمام والرعاية والتقدير، مجرد شواهد تذكارية على أحد الحلول الخيرية، التي أملتها الروح الإنسانية لحضارة العرب المسلمين، من أجل توفير مياه الشرب النظيفة للمارة في الشوارع ولدوابهم أيضًا.

فقد تراجعت فكرة السبيل تدريجيًا مع دخول المياه النقية إلى البيوت والأحياء، بإنشاء الخديوي إسماعيل شركة مياه القاهرة الكبرى عام 1874، واتخذت شكلاً حديثا مثل “الكولدير” و”البرَّادات” التي لا تزال تُسمى “السبيل” وتُكتب عليها نفس الآيات والعبارات، مثل: “هذا السبيل صدقة على روح فلان”. وإن بقى الخير في نفوس الناس، إلا أننا حُرمنا من جماليات عمارة الأسبلة.

وقد شهدت المدن العربية والإسلامية فى عصور ازدهار الحضارة الإسلامية إقبالاً متزايدًا على إنشاء أسبلة الماء. ففي حارات مصر تسابق الناس لإنشائها، كسبًا للدعاء، والثناء، وطلبًا للرحمة بعد الوفاة، وأُلحق ببعضها حوض لسقي الدواب. والقاهرة هي بحق مدينة الأسبلة، التي تعددت فيها، رغم وقوعها على مقربة من النيل الخالد، وقد شُيدت وفق طرازين، الأول مملوكي تميز بشكله المتعامد الأضلاع، مثل سبيل قايتباي، والسبيل الملحق ببيت الكريتلية، وسبيل خسرو باشا، وسبيل عبد الرحمن كتخدا في شارع بين القصرين، وسبيل الناصر محمد الملحق بواجهة مدرسة والده المنصور قلاوون بشارع المعز، ويليه تاريخيًا سبيل الأمير”شيخون” بالحطابة في منطقة باب الوزير أسفل القلعة، وهو نادر الطراز معماريًا لأنه منحوت في صخر بواجهة رائعة. أما الطراز الثاني الذي شاع في عصر العثمانيين فهو قريب الشبه بأسبلة اسطنبول المستديرة، وهو ما نراه في سبيل نفيسة البيضا، وسبيل رقية دودو في سوق السلاح، وسبيلي محمد على في العقادين والنحاسين، وسبيل أم عباس الشهير في حي الصليبة بالقاهرة قرب القلعة.

 

غاية دينية تقربًا إلى الله

يقول الدكتور محمد حمزة حجاج أستاذ الآثار والعمارة والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة: الأسبلة (جمع سبيل)، هي من المنشآت الخيرية في العمارة الإسلامية والتي يتجلي فيها فن العمارة الإسلامية. والهدف من إنشاء الأسبلة كان متعدد الغايات، فقد كانت تُنشأ إما لغاية دينية تقربًا لله، أو غاية نبيلة وهي السقاية المجانية للمارة وعابري السبيل، أو لغاية سياسية لتبدو كمكرمة من صاحب السبيل، خصوصًا أن المياه لم تكن متاحة في مصر والبلاد الإسلامية طوال أيام العام، حيث كان ينقطع الماء في الأيام التي يجف فيها النيل بفعل مواعيد الفيضان، مع انتشار الصحاري في البلاد الإسلامية.

أسبلة نسائية

ويؤكد الدكتور حجاجي إبراهيم، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة طنطا أن أغلب الأسبلة شيدتها نساء، وكان أشهرها: سبيل أم عباس بحي القلعة، الذي أنشأته السيدة بنبة قادن، والدة الخديوي عباس باشا، ترحمًا على روح ابنها الخديوي عباس، عقب اغتياله عام 1854، لذلك أصرت والدته أن يُسمى السبيل (أم عباس) وليس سبيل الأميرة بنبة قادن، تخليدًا لذكرى ابنها الراحل، ويتميز بالطراز المعماري العثماني والأوروبي معًا، والواجهة من الرخام الأبيض، وزُينت بالزخارف النباتية بجانب النقوش والآيات القرآنية.

هناك أيضًا “سبيل كلشن خاتون” الذي يوجد في عطفة الأنصاري، وقد شيدته كلشن هانم في منتصف القرن الـ17، وهو من الأسبلة المستقلة التي لا تعلوها كتاتيب، فيما يعتبر سبيل رقية دودو من أهم الأسبلة الأثرية في مصر، وبالتحديد في شارع سوق السلاح، لأنه تميز بنقوش نادرة وجميلة، والسقف مصنوع من الخشب المزخرف، وهناك سبيل الست صالحة بميدان السيدة زينب، وهو مستقل غير ملحق بأبنية، بينما يختلف سبيل نفيسة البيضاء الذي يقع في شارع المعز عن باقي الأسبلة، لأن صهريجه يوجد أسفل مبنى مجاور له، كما كان الكُتّاب الذي يعلوه مدرسة أولية مجانية للأطفال، ويُذكر أن نفيسة البيضاء كانت جارية شركسية رائعة الجمال، أعتقها سيدها على بك الكبير، وتزوجها، ثم تزوجت من مملوك يُدعى مراد بك، فسُميت نفيسة المرادية، واشتهرت بالكرم وحب أعمال الخير والعطاء خصوصًا في رمضان.

(ابن بطوطة) والأوقاف الخيرية

عندما دخل الرحالة المغربي “ابن بطوطة” مدينة دمشق، في بداية القرن الثامن الهجري (14م) أبدى إعجابه الشديد بالأوقاف الخيرية، التي رصد أصحابها ريعها لفعل الخير، كالإنفاق على العاجزين عن الحج، وتجهيز البنات اللاتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، وفكاك أسرى المسلمين، ومنها أيضًا أوقاف لأبناء السبيل، ليتزودوا عند سفرهم بكل احتياجاتهم، وأخرى لتعديل الطرق ورصفها. كما كان الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، كان موضع تقدير واعتبار لدى أجدادنا الأقدمين.

ومن سقاية حجاج بيت الله الحرام فى هجير مكة إلى سقاية المارة في طرقات المدن الإسلامية، نقل العرب “مروءة” توفير مياه الشرب من دون مقابل. فعرفت دولة الإسلام، التي تقع أغلب أقاليمها في المناطق المدارية الحارة، عادة إنشاء المباني بغرض توزيع الماء على المارة أو تسبيله (أسبل الماء بمعنى صَبهّ) الذي عُرفت من أجله بالأسبلة في الشرق العربي، وهذا هو الأغرب، فيما احتفظت هذه المباني  بتسمية “السقاية” في المغرب العربي، وقد صادفت مباني الأسبلة رواجًا وترحيبًا حارًا من المسلمين، نظرًا لما ترتبط به من فعل الخير بتوفير مياه الشرب للمارة في الشوارع، لاسيما في أوقات القيظ، بل كانت هناك الأسبلة التي تقوم بتخصيص جزء منها ترده السيدات اللاتي لا يقدرن على دفع أجور السقائين، للحصول على احتياجاتهن المنزلية من الماء.

 

وامتدت شجرة الشفقة الإنسانية بظلالها إلى الحيوانات والدواب أيضًا، فعينت لها أحواضًا لسقياها، طلبًا للمثوبة، وازدهرت الأسبلة في ظل حكم المماليك لمصر والشام، فشيدت لها مبان مستقلة بذاتها، أو أُلحقت بالمساجد أو المدارس وحتى بالمنازل، وغالبًا ما ارتبط بناء السبيل بإنشاء مكتب فوقه مباشرة ليتلقى فيه أيتام المسلمين دروسًا أولية في الكتابة والقراءة وتلاوة القرآن الكريم، وفي هذه الحالات كان يُطلق على مثل تلك المنشأة المزدوجة الغرض “السبيل الكتاَّب”.

عناصر السبيل

السبيل، أي سبيل، يتكون من عناصر رئيسية مهما اختلف طرازه أو تخطيط وحداته المعمارية، فهناك الصهريج وهو الجزء المبني تحت الأرض لخزن المياه فيه، ويتبع في بنائه طريقة خاصة لتلافي أضرار المياه الجوفية، في عمق الأرض، فتحاط أماكن وضع الأساسات بحاجز أو حواجز من الخشب أو الأتربة ويترك بينها وبين بعضها مسافات حتى يتم رفع المياه منها بالشواديف.

وكانت للصهاريج ثلاث فتحات: الأولى فتح تزويد بالماء العذب، وتعرف “بالمصبة” وموقعها عادة في واجهة الصهريج، وبالتحديد في الأجزاء السفلى منه، حتى يسهل على السائقين تفريغ قربهم فيه، من دون مجهود يُذكر، وهذه الفتحة لا يتعدى اتساعها نصف متر، وارتفاعها أقل من المتر، وفي أرضيتها حوض بسيط يتم تفريغ القِرَب فيه ليأخذ الماء طريقه إلى عمق الصهريج، ويُغلق على الفتحة قطعة رخامية تأخذ شكل الفتحة نفسها (تُسمى خرزة) وهي محكمة الإغلاق لمنع تسرب الأتربة ولها مقبض تشد منه عند الحاجة.

والفتحة الثانية في الصهريج هي فتحة المأخذ ويتم عن طريقها رفع الماء من الصهريج، ونقله إلى أحواض “التسجيل”، وقد اتخذت في شكلها المعماري هيئة حنفية نصف دائرية في أحد جدران الصهريج بادئة من القاع ثم تمتد إلى أعلى لتأخذ الشكل الاسطواني وتنتهي على السطح بفتحة مستديرة تُعرف بفوهة الصهريج، وتُغلق بخرزة رخامية. أما الفتحة الثالثة فمخصصة للنزول إلى الصهريج لتنظيفه وتطهيره ومسح ما عُلق بجدرانه وتبخيره، وذلك قبل الشروع في ملئه، وغالبًا ما كانت توجد هذه الفتحة في أحد أركان حجرة “التسبيل” أو في حجرة ملحقة بها، وينزل إليها بدرجات سلم قد تصل إلى 17 درجة.

إدارة التسبيل

تقوم على إدارة السبيل وتشغيله مجموعة من العاملين، اختص كل واحد منهم بوظيفة بعينها، وأهم هؤلاء ناظر الوقف و”المزملاتي” والسقا، والبواب والفراش. ويُعد ناظر الوقف الشخصية الأولى في هيئة إدارة السبيل، فهو المسئول المالي والمدير في آن معًا، ويقوم برعاية أوقاف السبيل وتعميرها وتنميتها ومراقبة موظفي الوقف وتحصيل إيراده وصرفه وفق شروط صاحب الوقف، ويتقاضى ناظر الوقف مبلغًا من ريع الأوقاف يكفل له حياة كريمة.

أما المزملاتي فهو المختص بالعمل في السبيل، وكان فتح وإغلاق السبيل في الأوقات المحددة لذلك، ويقوم بنقل الماء من الصهريج وصبه في أحواض المزملة، ثم يتولى تفريقه على المارة، وقد يقوم ببعض المهمات الأخرى مثل رش الماء أمام السبيل وتنظيفه من الداخل وتجفيف أحواضه في نهاية اليوم، مع مراعاة التحفظ على أدوات “التسبيل” وتنظيفها.

تقدر عدد الأسبلة المتبقية من العصر المملوكي بـــ “65” سبيل فى القاهرة، ومن العصر العثماني (1517-1914) بــ “80” سبيلا منها “73” على الطراز المصري، و7 منها على الطراز العثماني، ومن القرن التاسع عشر “73” سبيلاً بالقاهرة، منها “59” على الطراز المصري و”14″ عثمانيًا، وفى طنطا سبيلان، أقامهما “على بك الكبير” أحدهما بالقرب من مسجد “السيد البدوي”، والآخر تم نقله إلى شارع الجلاء بطنطا، و”14” سبيلاً أخرى في رشيد ملحقة ببعض المنازل.

 وبقية الأسبلة توزعت على مدن وقرى مصرية متفرقة واندثرت، ولم يعُد لها وجود إلاَّ في الوثائق وأقوال الرحالة وبعض صور قديمة. وكانت واجهة الأسبلة تُزين بآيات قرآنية منها “وسقاهم ربهم شرابًا طهورا”، أو “وجعلنا من الماء كل شئ حى”، وأيضًا عبارات شعرية مناسبة مثل “ياوارد الماء الزلال الصافي اشرب هنيئًا صحة وعوافي”. والأسبلة كعمل خيري لم يكن مقصورًا على الميسورين من التجار والعلماء، والنساء أيضًا، حيث شارك السلاطين والأمراء في بنائه بدور كبير .

بقى لنا من مئات الأسبلة بالقاهرة مجموعة أبنية من طرز معمارية مبهرة، تعرض أغلبها للإهمال الشديد، وتهالكت عشرات الأبنية النادرة منها، واختفت من الوجود إلى الأبد لتحقق خسارة لا يمكن تعويضها، وتداعت عشرات أخرى، وبات بعضها مقلبًا للزبالة، ومرتعًا للحيوانات الضالة والقوارض. وبالرغم من هذا ما بقي منها يدهشنا، ويلفت أنظارنا إلى تاريخ من التكافل الاجتماعي، ومرفق مياه الشرب أهلي في أغلبه، وحكومي في بعضه، وهي نشاط خيري كان يستهدف الفقراء وعابري السبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى