
متابعة: سمير شحاتة
عندما شاهدت أوروبا بورتريهات الفيوم التى وصلتها من مصر برفقة أحد النبلاء الإيطاليون كان العالم فى منتصف القرن السابع عشر، وكانت معرفته بمصر تقتصر على بعض الإشارات العابرة فى العهد القديم أو ما كتبه عنها هيرودوت عندما قام برحلته الشهيرة إليها فى القرن الخامس قبل الميلاد، ولم يكن حجر رشيد قد باح بعد بسر اللغة الهيروغليفية، ولم تكن طلائع بعثات التنقيب والبحث عن الآثار قد عرفت طريقها إلى مصر فكانت صورتها فى أخيلة الأوروبيين غامضة ومخصبة بأساطير السحر والخرافات.
وكان ظهور هذه البورتريهات فى تلك الفترة المبكرة وفى هذا المناخ هو بمثابة بصيص من الضوء ينطلق من مصر كإرهاصته لميلاد عهد جديد من المعرفة فيه يرون مصر التى لم يروها من قبل كأصل من أصول الحضارة الإنسانية ومشعلاً لا يخبو للثقافة والفن موردًا لا يغضب للعلم والمعرفة.
وفى مقال لسمير غريب بعنوان “إعادة اكتشاف وجوه الفيوم” أشار إلى أنه فى نهاية عام 1880 بدأت تصل إلى غرب أوروبا والولايات المتحدة صور لوجوه آدمية “بورتريها .. جميلة وغامضة” آتية من منطقة الفيوم، كان أحد التجار النمساويين “تيودور ويتر فون جراف” يمتلك مجموعة كبيرة منها. جاءت هذه من “هوارة” عقب أعمال التنقيب التى قام بها عالم الآثار البريطانى “فليندر بترى”، وصل عدد الصور “البورتريهات” التى وصلت إلى أوروبا والولايات المتحدة من منطقة الفيوم إلى أكثر من ألف بورتريه، وعرف العالم هذا النوع الغامض المدهش من الصور باسم “بورتريهات الفيوم” أو صور وجوه الفيوم. ومن المعلوم أن وجوه الفيوم أُدرجت ضمن الفن القبطى فى مصر.
كانت وجوه الفيوم تُرسم على خشب أو نسيج، وتُرسم عادة بألوان الشمع (شمع ساخن أو بارد)، وأحيانًا الألوان المائية، ونجد الأسلوبين معًا فى بعض اللوحات، فكانوا يرسمون الوجه بالألوان الشمعية، بينما يرسمون المشاهد المحيطة بالألوان المائية. فإن وجوه الفيوم تصل ما بين الفن الفرعونى والفن البيزنطى، وهذا ما توضحه الأساليب الفنية المستخدمة فى هذا التواصل بجلاء. كما يتضح أيضا فى التصوير البيزنطى سمات لوحات الفيوم. وتتكون معظم الوجوه من ألوان أربعة رئيسية الأبيض –الأصفر- الأحمر–الأسود، وكانت هذه هى ألوان الشعر والوجه نفسه. أما الألوان الإضافية مثل الأزرق والأخضر والأرجوانى فاستخدمت فى تلوين الملابس والمجوهرات والتيجان، وفى النهاية تأتى بطبيعة الحال اللمسات الأخيرة من الأوراق المُذهبة، وكانت هذه الألوان تحقق تناغمًا رائعًا. وكثيرًا ما استخدموا لون خامس قوى الشبه بلون الشفاه والخدود، بدرجات مختلفة من القرمزى والأحمر والوردى، وفى بعض الأحيان يكون اللون الخامس هو الأخضر، وفى بعض الأحيان تكون الملابس مطرزة بالذهب.
والمجوهرات هى العنصر الأكثر تكوينًا فى البورتريهات وأحيانًا كانوا يستخدمون لونًا سادسًا وحتى سابعًا لإظهارها، واستخدموا اللون الأخضر لإظهار اللؤلؤ الزمردى. ومعظم التيجان والعقود من الأوراق المذهبة، أو بلون ذهبى، وهناك تيجان من زهور وردية وبيضاء.
يقول سمير غريب فى نهاية مقالته أنه بشكل عام إذا كانت وجوه الفيوم تبدو بسيطة فى تنفيذها، فإنها فى الواقع تخفى رقة لا نهائية تساهم كثيرًا فى التأثير على المشاهد بالإضافة إلى خواصها الأخرى، وتقاليدها العريقة منحتها تماسك الأعمال الفنية العظيمة.
وبعنوان اكتشاف صور الفيوم أشار الدكتور محمد صالح إلى أن اصطلاح صور أو (بورتريهات) الفيوم يرجع إلى أن أول ما عرف فيها عثر على مومياوات دُفنت فى جبانات تتبع محلات سكنية فى منطقة الفيوم، وكانت هذه الصور تخص سيدات ورجال وأطفال من جميع الأعمار وقد عثر على هذه الصور فى مناطق أخرى من سقارة وحتى أسوان فى أقصى الجنوب وخاصة فى منطقة الجبانة الرومانية فى هوارة بالفيوم شمال هرم أمنمحات الثالث فى موقع اللابرنث أو (قصر التيه)، وأغلب هذه الصور موجودة حاليًا فى المتحف المصرى بالقاهرة والمتحف البريطانى، وقد عثر على بعضها فى أخميم والشيخ عبادة (أنتينو بوليس) وهى المدينة التى أنشأها هارديان عند زيارته لمصر عام 122م تخليدًا لذكرى أحد أفراد حاشيته المقربين إليه وكان يدعى أنتتيوس والذى توفى أثناء رحلة الإمبراطور النيلية واكتشف صور هذا الموقع الأثرى الفرنسى جيد جايت وذلك بين عامى 1869 و1911.
وقد رُسمت هذه الصور بطريقة تسمى اصطلاحًا (انكوستيك) أى مرسومة بألوان شمعية كثيفة مثبتة بالحرارة، حيث كان الشمع يغلى فى الماء مع قليل من ملح النطرون وفى أحيان أخرى بطريقة “التمبرا” (أى مزج الألوان بصفار البيض أو الغراء بدلاً من الزيت)، وكانت الألواح تحضر بواسطة دهانها بطبقة من الجبس أو الطلاء ويصقل جيدًا ثم يرسم تخطيط الصورة باللون الأسود ونادرًا ما يكون باللون الأحمر، أما خلفية الصورة فكانت تكون بفرشاه واسعة ثم يحدد الرأس والملابس بعد ذلك، وكانت ملامح الوجه والرقبة تلون بفرشاة خفيفة ونفذت الملابس والحلى بواسطة ضربات فرشاة سميكة نوعًا وربما استُخدم سكينًا لدهان اللون السميك بدلاً من الفرشاة.
الملابس .. أشكالها وألوانها وزخارفها:
كانت موضة الملابس لا تتغير على مر القرون الأربعة، مكان الرجال والنساء يصورون بملابس عادية للحياة اليومية التى كانت معروفة فى العالم الهلينستى، وهى عبارة عن رداء بسيط عادة ما يكون مصنوعًا من الكتان، وفى أحيان قليلة من الصوف ينزل على الكتفين، وكان هذا الرداء من قطعة واحدة متوسطة للرأس والكُمين، وكان الظهر والأمام وقطع الأكمام تحاط مع بعضها عند الحواف لتكون فى النهاية رداء يشبه الجوال الواسع، وكان أحيانًا يلبس رداءان فوق بعضهما البعض.
كان لون رداء الرجال أبيض بنقط رمادية أو خضراء، أما الرداء الخاص بالسيدات فكان فى العادة أحمر قانيًا وقليلاً ما كان بنفسجيا أو أزرقًا أو أخضر، وكان الرداء مزخرف بشريطين ضيقين ينزلان على الأكتاف من الجانبين، وفى البداية كانت الشرائط ملونة باللون الأسود وذات حواف مُذهبة.
طريقة تصفيف الشعر:
يلاحظ أن الصور الأقدم كانت تسريحاتها بسيطة وملامحها قاسية مثل ملامح التماثيل الحجرية من عصر الأسرة اليوليوكلاودية (30 ق.م–68م) والأسرة الفلافية (69–96م)، وكانت للرجال شعور قصيرة مرسلة مرجلة بطريقة مريحة وتنزل على أعلى الجبهة باستواء، وكانوا حليقى الذقن، أو بشعر لحية نابت كما لو كانوا لا يحلقون يوميا، وفى الفترة بعد هارديان وفى عصر الأنطونينوز وُجد أن الرجال كانوا فى العادة يظهرون بشعر مُرجل مُجعد ولحية مُجعدة.
وكانت بدايات صور السيدات تصور فى شكل بسيط وهن جميلات ومليئات بالأنوثة، وفى الفترة المتأخرة من القرن الأول الميلادى ظهرت السيدات بتسريحة الشعر المعقدة، وكان الشعر يرجل فى خصلة كبيرة خلف الرأس ويصفف الشعر الأمامى فى خصلات مُجعدة قصيرة.
أشكال الحلى:
فى القرن الثانى كان هناك عُقدان معروفان منهما واحد عبارة عن سلسلة من الذهب أو خيط تتدلى منه خرزات ذهب، والعُقد الآخر يمكن أن يكون قد صنع من أحجار شبه كريمة (اللون الأخضر والزمرد والأحمر للعقيق والأبيض للؤلؤ والأزرق للأماتيست وللاأزورد والفيروز)، كما كان هناك لويحات طويلة من زجاج معتم تلون مقلدة للأحجار شبه الكريمة داخل إطار من الذهب، وفى الصور المتأخرة رُسمت الحلى بغير اهتمام وأصلحت الميداليات المطعمة بالأحجار شبه الكريمة الموجودة داخل إطار من الذهب وكانت هى الموضة السائدة.
أما الأقراط فكانت كل السيدات تتزين بها حتى الأولاد كانوا يلبسون أقراطًا فى بعض الأحيان، وكانت أقدم الأقراط تشبه القرص من الذهب أو الكرة. وفى القرن الثانى كانت الأقراط فى شكل طوق رقيق مرصع بالأحجار، على هيئة قضيب صغير يتدلى منه دلايتان أو ثلاثة، وإن كانت الصور مرسومة ويظهر فيها الصور والذراعان، وكانت النساء يلبسن أساور من الذهب أو الفضة على هيئة الثعبان فى الرسغين.